الوصف
مركزاً على “ثقافة المقاومة”، المتجذرة في وجدان البشر حيال ظاهرة السلطة السياسية، أفرد تشارلز تريب كتاباً جعل له عنواناً: “السلطة والشعب”، وخصصه بعنوان فرعي: “مسارات المقاومة في الشرق الأوسط”. وخلال صفحات هذا الكتاب التي جاوزت 400 صفحة من القطع المتوسط، حاول تريب أن يفكك خريطة المقاومة الطبيعية البشرية للسلطة السياسية عبر التاريخ في منطقة الشرق الأوسط، وذلك في معرض الإجابة الضمنية عن سؤالين: من يمتلك السلطة السياسية وكيف يحكم الناس انطلاقاً منها؟، ولماذا يتمرد الناس على تلك السلطة ويقاومونها؟.
الكتاب صدر عن مطبعة جامعة كمبريدج سنة 2013، وهو ما يبرر انطلاق صاحب الكتاب من التأسيس على المشهدية السردية التي وفّرتها موجة الاحتجاجات الشعبية التي تلاحقت في الشرق الأوسط منذ أواخر سنة 2010 في تونس، مروراً بمصر ثم ليبيا وسوريا واليمن والبحرين. وهو انطلاق تأسيسي دفع الكاتب إلى التوقف كثيراً عند الأبعاد “الدرامية” للتسلط ورومانسية الاحتجاج والمقاومة الثورية، والفعل القمعي التسلّطي البوليسي، معتمداً منهجية “المعالجة الرمادية”، أي التزام عدم الانحياز إلى طرف معين، ومرتكناً إلى استحضار مختلف المحطات التاريخية في التفسير والتحليل والفهم.
يحتل الحدث السوري الراهن حيزاً مهماً من مقدمة الكتاب، وبه يبداً الكاتب التمهيد لفكرة المقاومة التي تبديها الشعوب اتجاه السلطة، وذلك لأسباب ذات صلة بالمعيش السلطوي الماثل في القمع والقهر واحتكار الثروة والسلطة، وهي من الأفعال التي تتضرر منها الغالبية لصالح القلة في المجتمعات التي لم تنجز مهاماً ديمقراطية، ولم تحقق مكاسب شعبية حقيقية على صعيد اكتساب السلطة للشرعية اللازمة لها كي تمارس وتتداول بشكل سلمي وسليم.
قبل الدخول في فصوله الستة، يضيء الكتاب على الصراع الدائر حالياً في سوريا، والذي بدأ مع الاحتجاجات الشعبية ضد النظام في درعا، في آذار مارس 2011، على خلفية ما أشيع إعلامياً وقتها حول تعامل قمعي للأمن السوري مع أطفال درعا الذين تعاطوا مع مزاج الاحتجاجات في تونس ومصر وليبيا. ويتبنى الباحث تريب هذه الرواية لينتهي إلى أن مسعى السلطة قد فشل في تحقيق هدفه المقصود، باعتبار أن الرد العنيف من قبل قوات أمن الدولة لم يتمكن من تثبيط عزيمة المقاومة الشعبية، وسرعان ما أدت إلى انتشار المقاومة المفتوحة عبر البلاد. لكن الإجابة عن أسئلة: لماذا، كيف ومتى قاوم الشعب السلطة والقوة الممارسة عليه؟، باعتبارها هي الأسئلة المركزية الموجهة في كتاب تشارلز تريب، لم تجعله يقف فقط عند نموذج مقاومة شعوب المنطقة لتسلّط نظمها فحسب، وإنما سعى على نحو “رمادي”، إلى تفكيك وتحليل آليات ومظاهر مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال الصهيوني أيضاً.
يمكن القول إن كتاب السلطة والشعب هو كتاب واسع النطاق ومفعم بالإشارات إلى الكثير من التجارب. فهو يأخذنا من المغرب إلى إيران، ويتناول مجموعة متنوعة من المفاهيم، من المقاومة العنيفة إلى المقاومة المعتمدة على الفنون البصرية. وبالتالي فإنه وعلى الرغم من أن أحداث “الربيع العربي” كانت حاضرة بشكل مركزي في هذا التحليل، إلا أنها ليست بأي حال الموضوع الرئيس في الكتاب. بل إن تريب يركز بشكل أساسي، كما هو واضح من العنوان، على السلطة. ويستعمل هذه اللفظة في أغلب الأحيان للإشارة إلى تلك الامتيازات التي تحتكرها الدولة وتمارس من خلالها الإكراه على مواطنيها، سواء أكان إكراهاً شرعياً بالمعنى الفيبري، أو غير شرعي، وسواء أكانت تلك السلطة عائدة إلى دولة وطنية أو إلى احتلال أجنبي على حد سواء.
لا يخلو كتاب تريب من التأثير الواضح لأعمال ميشيل فوكو عليه، خصوصاً تلك المتعلقة منها بتفكيك أواليات السلطة، كيف تنشاً وكيف تعمل، وكيف تهتم بشكل جوهري بالصيغة التي تكون عليها المقاومات التي تنشأعلى تخومها. ذلك أن المقاومة كثيراً ما تكون ظلاً للسلطة، والعكس صحيح. وموقع “الظلِّية” هذا هو حسب الكاتب تريب اعتياد لم تبرحه غالباً حركات المقاومة، إذ تجد هذه الأخيرة لنفسها طرقاً لانخراط ما حيال السلطة، مع توجيه قدر من الاتهام إليها، ولو أن السعي إلى تغيير نظم كاملة من التسلط والاستعباد، يكون سعياً مشروطاً بتوافر المقاومة على كم من القدرة على العمل المستقل عن السلطة. لكن هذا لا يعني مطلقاً، بحسب تريب، أن المقاومة لا تتطلب شكلاً من أشكال السلطة، إذ ما دامت المقاومة شعبية، والسلطة يفترض فيها أنها كذلك، لكنها حادت عن شعبيتها، فإن المقاومة تصير وكأن السلطة تعارض نفسها. هذا فضلاً عن أن السلطة قد تحتاج إلى هذه المقاومة التي تسعى إلى هدمها، لأن الأمر على هذا النحو يكون ذا صلة بسعي من السلطة إلى تبرير نفسها والحاجة إليها، حيث أن امتلاك القوة اللازمة لقمع مقاومة ما، يجدد للسلطة وهجها.
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.