الوصف
شغلت ظاهرة تشكل الإمبراطوريّات، وصعودها وأفولها، عددًا من الفلاسفة والمفكرين والمؤرخين، حيث تأمّل فلاسفة، من أمثال ابن خلدون، تعاقب الدول وتقلبات الأزمنة، فيما نظر آخرون من أمثال ماركس وإنجلز وفيبر في تحليل الظواهر المادية للمجتمعات المعقدة التي تشكلت عبر العصور. ومع النهضة والحداثة، اكتسبت دراسة التاريخ منهجية علمية، لكنها لم تتوفر على المعطيات والقرائن الكافية، كي يتمكن المفكرون والمنظرون من صياغة تصوراتهم حول تعاقب تشكيلات المجتمعات البشريّة، بالنظر إلى ندرة المعلومات الإحصائيّة التي يمكن بناء استنتاجات على أساسها، الأمر الذي أبقى كل التنبؤات حول اتجاهات المجتمعات مفتقرًا إلى شرعيّة علميّة حاسمة.
غير أن الباحث الأميركي، الروسي الأصل، بيتر تورتشين، يرى أن تفوق العلم في عصرنا يؤّمن قواعد بيانات وإحصاءات ضخمة، تمكننا من إعادة النظر بطريقة كتابة علم التاريخ برمته، عبر الانتقال به إلى صرامة العلوم الأساسية، مثل الفيزياء والرياضيات، أو مقاربتها على الأقل، وبالتالي يمكن اكتشاف الأنماط المتكررة، والتنبؤ بحالات عدم الاستقرار والأزمات المجتمعيّة الحادة من دون انحيازات أيديولوجية، وربما نتمكن من بناء توافقات بين الفئات المعنيّة من نخب المجتمعات السياسية والاقتصادية والثقافيّة، لاتخاذ إجراءات احترازيّة قد تسهم في منع وقوع الكوارث والأزمات الكبرى، وعليه يمكن وضع قوانين لصعود الإمبراطوريات وسقوطها، وللانفجارات السكانية، وما يصاحبها من اختلالات هيكلية شاملة، وهو ما يحاول تبيانه في كتابه “الحرب والسلام والحرب: صعود الإمبراطوريات وسقوطها” (ترجمة أحمد العبدة، منتدى العلاقات العربية والدولية، الدوحة، 2023)، الذي يقدم فيه قانونًا لقراءة صعود الإمبراطوريات وأفولها، يتلخص في أن “السلام يجلب الحرب، والحرب تجلب السلام”، وذلك بالاستناد إلى أطروحات ابن خلدون في صعود الدول وسقوطها، حيث يرى أن المجتمعات الواقعة على تخوم ثقافات مختلفة تضطر بسبب هذا الجوار إلى إيجاد رابطة جامعة بينها للتعاون والنصرة، وهذه الرابطة هي “العصبية” التي وضع مفهومها ابن خلدون، والتي قد تتكرس وتقوى، فتستند إليها الجماعة لتتحول إلى قوة سياسية، وتتمكن من توسيع نفوذها بقدر قوتها وتماسكها وتعاونها، فتنشأ إمبرطوريات عبر الحروب مع جيرانها. وإذا استقرت الإمبراطورية جاء السلم والسلام الداخلي، اللذان يجلبان الازدهار، ومعهما تأتي عوامل تضعف تلك العصبية الموحدة للجماعة، حيث ينمو الثراء وينتشر الرفاه، ويكثر الترف والمترفون، وتنمو معهما نزعات الاستئثار، فتنشأ نخبة تجمعها عصبية أضيق من عصبية الجماعة، وتقوم باحتكار الموارد، وتسخر الضعيف للقوي والفقير للغني، فتنشأ خلافات حول الثروة والسلطة، وتضعف الرابطة العصبية الجامعة، ويغري الضعف الطامعين، فيقودها ذلك السلم إلى الحرب، وتودي بها الحروب إلى السقوط والاضمحلال. ومع انهيار الإمبراطوريات الجامعة تندلع الحرب وتنتشر الأوبئة والموت، وتنشأ الحروب الأهلية، التي تفضي إلى تقلّص عدد السكان، وتقلّل من النخب.
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.