دورات التاريخ وفلسفة الثقافة عند أوسفالد شبنجلر

يرى الفيلسوف والمؤرخ الألماني أوسفالد شبنجلر، أن التاريخ لا يسير في خطٍ مستقيم من البدائية إلى التقدم، ولا يتطور وفق مسارٍ تصاعدي كما ذهب إليه مفكرو التنوير، بل هو سلسلة من الثقافات المستقلة، لكل منها روحها الخاصة ودورتها الحياتية الكاملة. فالتاريخ، في نظره، ليس تاريخًا واحدًا للبشرية، بل مجموعة من تواريخ متوازية لثقافاتٍ كبرى، تتوالى عبر العصور كما تتعاقب الكائنات الحية في الوجود.

يعتبر شبنجلر، أن الثقافة كائن حي، تنشأ وتنمو وتزدهر ثم تشيخ وتموت. ولها دورة حياة شبه بيولوجية تتألف من أربعة فصول رئيسية: الربيع، الصيف، الخريف، والشتاء. ويقدّر العمر الافتراضي لكل ثقافة بنحو ألف عام.

في مرحلة الربيع الثقافي، كما في بدايات اليونان أو فارس، تكون الثقافة فتية بسيطة ومفعمة بالقوة والروح الخلّاقة، إذ تهب فيها “الروح” التي تمنحها طاقتها الأولى.
ثم تأتي مرحلة الصيف، حيث تنتشر الحيوية الثقافية من النخبة إلى عامة الناس، ويتبلور التنظيم السياسي وتزدهر العلوم والفنون، فتنتج الأمة أعمالاً عظيمة تخلدها في التاريخ.
ومع نضجها وبلوغها الذروة تبدأ مرحلة الخريف، حيث يتراجع الإبداع وتغلب النزعة النقدية على النتاج الفكري والفني، وتظهر المدن الضخمة التي تضم خليطًا من البشر بلا جذور واضحة أو هوية جامعة.
أما مرحلة الشتاء، فهي طور الشيخوخة والانحدار، حيث تفقد الثقافة طاقتها الإبداعية وتتحول إلى ما يشبه الهمجية الجديدة، معلنة نهاية دورتها التاريخية، كما حدث مع الثقافات المصرية والهندية والصينية القديمة.

وفي تمييزه بين الثقافة والحضارة، يوضح شبنجلر أن الثقافة هي الروح الحية للدورة الحضارية، هي الطاقة التي تدفع الشعوب إلى الإبداع والتجدد، وهي تمثل مرحلة النمو والخلق الفني والفكري. أما الحضارة، فهي المرحلة اللاحقة التي تعقب اكتمال الثقافة، وتشير إلى الجمود والانحلال، فهي “الموت الذي يأتي بعد الحياة، والسكون الذي يتلو الحركة”.

ويرى شبنجلر، أن التاريخ حتمي في دوراته، إذ لا مفر لأي ثقافة من بلوغ نهايتها حين تنضب طاقتها الخلاقة. فالحضارة، في فلسفته، ليست ذروة المجد الإنساني كما يظن بعض المفكرين، بل هي الفصل الأخير في عمر الثقافة، حيث تتبدد الروح وتبقى البنية فارغة من المعنى.

وبذلك يقدم شبنجلر رؤية تشاؤمية لكنها عميقة لمسار التاريخ الإنساني، تقوم على فكرة أن المجد الثقافي مؤقت بطبيعته، وأن أعظم ما يبدعه الإنسان في لحظة الازدهار يحمل في داخله بذور زواله القادم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *