كيف نظر أرنولد توينبي إلى سقوط الحضارات؟

يُعد المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي من أبرز المفكرين الذين تناولوا فلسفة التاريخ من منظور حضاري شامل، حيث كرس دراساته لتحليل نشوء الحضارات وتطورها وسقوطها. وقد درس توينبي ما يقرب من ستٍ وعشرين حضارة، محاولًا استنباط القوانين العامة التي تحكم مسارها التاريخي، فخرج بنظريته الشهيرة “التحدي والاستجابة” التي جعلها محور تفسيره لقيام الحضارات وانهيارها.

يرى توينبي أن الحضارة تنشأ نتيجة استجابة الإنسان لتحديات بيئته الطبيعية والاجتماعية؛ فكلما واجهت الجماعة البشرية تحديًا جديدًا، كان أمامها خياران: إما الاستسلام والفناء، أو الإبداع والمقاومة. ومن ثم، فإن نوعية الاستجابة وفاعليتها هي التي تحدد مصير الحضارة. وتكون هذه الاستجابة ثمرة جهود الفئة الخلّاقة، وهي النخبة المبدعة التي تمتلك القدرة على الإلهام والقيادة والتجديد. وغالبًا ما تتسم هذه الفئة في بداياتها بنوع من العزلة المجتمعية، إذ تنشأ أفكارها في بيئة مختلفة عن السائد ثم تنتقل لتقود المجتمع نحو النهضة.

ويؤكد توينبي في نظريته أن قوة الاستجابة تتناسب طرديًا مع شدة التحدي، فكلما تعاظم التحدي، ازدادت طاقة الإبداع والابتكار داخل الأمة حتى تصل إلى ما يسميه بـ “الوسيلة الذهبية”، وهي الصيغة المثالية التي تتبلور عبر سلسلة من التجارب والمحاولات، الناجحة والفاشلة، حتى تهتدي الأمة إلى الطريق الصحيح نحو النهوض الحضاري.

أما في ما يتعلق بـ سقوط الحضارات، فيرى توينبي أن انهيارها لا يأتي في الغالب من الخارج، بل يبدأ من داخلها، حين تفقد قدرتها على الاستجابة للتحديات. ويحدد ثلاثة عوامل رئيسية تقود إلى هذا الانهيار:

  • تحول الفئة الخلّاقة: إذ تنحرف عن رسالتها الأولى، وتتحول من قوة مبدعة إلى طبقة محافظة تفقد روح المبادرة.
  • فقدان الثقة بين الأغلبية والفئة القائدة: حيث تتخلى الجماهير عن دعم هذه النخبة، فتضعف الروابط الاجتماعية والسياسية التي تشكل أساس الحضارة.
  • تصاعد الانقسام الداخلي: وهو نتيجة طبيعية للعاملين السابقين، إذ يؤدي إلى تفكك المجتمع وزيادة الصراعات الداخلية التي تمهد لانهياره.

لقد قدّم توينبي من خلال فلسفته رؤيةً ديناميكية للتاريخ، تجعل التحدي والاستجابة قانونًا عامًا يفسر مسيرة الأمم، ويمنح دراسة الحضارات بعدًا إنسانيًا تفاعليًا، يعيد الاعتبار إلى دور الإرادة والإبداع في صناعة التاريخ وصون الحضارة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *